ليلة القدر

الكاتب : سماحة المفتي العام الشيخ عبد الكريم الخصاونة

أضيف بتاريخ : 13-04-2023


ليلة القدر

 

هي الليلة الموعودة المشهودة المباركة، ليلة نزول القرآن الكريم على قلب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بواسطة ملكٍ ذي قدر، على رسولٍ ذي قدر، لأمةٍ ذات قدر.

هذه الليلة المباركة لم تشهد الأرض مثل عظمتها وقدرها ودلالتها، سجلها الوجود كلّه في فرح وابتهاج وابتهال، ومن قام هذه الليلة العظيمة إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه، ومن أتى فيها بفعل الخيرات والطاعات كانت له عند الله تعالى خير من ألف شهر ليس فيها ليلة القدر.

هذه الليلة التي تفيض بالنور الإلهي المشرق في السموات والأرض، ونور الملائكة والروح وهم في غدوهم ورواحهم طوال الليل، وفي هذه الليلة المباركة تفيض الأنوار والتجليات القدسية والنفحات الربانية على عباده المؤمنين، القانتين، الساجدين، المتبتلين لله ربّ العالمين، تكريماً لنزول القرآن الكريم.

قال الخليل بن أحمد: "ليلة القدْر: هي ليلة الضيق، أخذاً من قوله تعالى: (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ) أي ضُيِّق، وسميت بذلك لأن الأرض تضيق فيها الملائكة النازلين إليها في تلك الليلة، ونزول الملائكة كلّه خير وبركة لأهل الأرض، قال تعالى: (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) القدر: 4.

وقد جاء في الحديث الشريف الذي رواه أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تِلْكَ اللَّيْلَةِ فِي الْأَرْضِ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ الْحَصَى).

وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "إنها ليلة التقدير، لأنه يُقدّر فيها ويُقضى ما يكون في تلك السنة من مطرٍ ورزقٍ وإحياء وإماتة إلى السنة القابلة، قال الله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ)، أي أنه في ليلة القدر يفصل يُبين كلّ أمر محكم من أرزاق العباد وآجالها وسائر أحوالهم فلا يتبدل ولا يتغير، قال ابن عباس: "يحكم الله أمر الدنيا إلى السنة القابلة ما كان من حياة أو موت أو رزق".

وقال كثير من المفسرين: "إن ليلة القدر لمكانتها وشرفها تتضمن كل هذه المعاني".

ووجه التفضيل الحقيقي لهذه الليلة هو نزول القرآن الكريم فيها؛ لقوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)، والصحيح عند ابن حجر في شرح البخاري، كما صح عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن القرآن الكريم أُنزل في ليلة القدر جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا، أو هي الليلة التي بدأ نزول القرآن الكريم فيها على قلب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، أو هي الليلة التي أمر الله تعالى القلم أن يكتب القرآن الكريم في اللوح المحفوظ.

فليلة القدر هي الليلة المباركة التي حظيت بساعة الفصل من عالم الغيب المكنون إلى عالم الشهادة الموجود، ولا ريب أن القرآن الكريم هو منبع الخير ومصدر الهداية والنور، يهدي للتي هي أقوم، لذلك قال تعالى في شأن هذه الليلة المباركة: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ)، أي أن دراية علومها ومنزلتها خارج عن دراية الخلق، ولا يعلم ذلك إلا علام الغيوب، قال الخازن: "هذا على سبيل التعظيم والتشويق لخبرها كأنه قال: "أي شيء يبلغ علمك بقدرها ومبلغ فضلها".

هل ليلة القدر ثابتة أم متنقلة؟

قال ابن حجر الهيثمي رحمه الله: "اختار جمعٌ أنها لا تلزم ليلة بعينها من العشر الأواخر، بل تنتقل في لياليه، فعاماً أو أعواماً تكون وتراً إحدى وعشرين أو ثلاثاً أو غيرها.

وعاماً أو أعواماً تكون شفعاً اثنين وعشرين أو أربعاً أو غيرها، ثم قال: ولا تجتمع الأحاديث المتعارضة فيها إلا بذلك.

وروي عن أبي قلابة أنه قال: "ليلة القدر تنتقل في العشر الأواخر، وقد مال إلى هذا الراي كثير من السلف الصالح، منهم الإمام مالك وأحمد بن حنبل وأبو ثور والمزني، وغيرهم".

أما الإمام الشافعي رضي الله عنه ذهب إلى أنّ ليلة القدر ليلة ثابتة معينة لا تنتقل، وأن تلك الروايات المعارضة في تحديدها إنما صدرت من النبي صلى الله عليه وسلم جواباً لمن يسأله أألتمس ليلة القدر في الليلة الفلانية؟ فيقول له: نعم.

واستدل الشافعي رضي الله عنه في رأيه هذا بما جاء في البخاري عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه (إِنِّي خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ القَدْرِ، وَإِنَّهُ تَلاَحَى فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ، فَرُفِعَتْ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ، التَمِسُوهَا فِي السَّبْعِ وَالتِّسْعِ وَالخَمْسِ) صحيح البخاري.

ووجه الدلالة: أنها لو لم تكن مستمرة التعيين لما حصل لهم العلم بعينها في كل سنة، إذ لو كانت تنتقل لما علموا تعيينها إلا ذلك العام فقط، اللهم إلا أن يُقال: إنه صلى الله عليه وسلم خرج ليعلمهم بها تلك السنة.

وكثير من العلماء يميل إلى قول الشافعي، فهذا يتناسب مع أوصاف تلك الليلة التي خصها الله تعالى وعينها وحدّدها منذ الأزل لتنزل القرآن الكريم فيها.

وعلامتها: 

روى الإمام أحمد والبيهقي وغيرهما عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ أَمَارَةَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ أَنَّهَا صَافِيَةٌ بَلْجَةٌ كَأَنَّ فِيهَا قَمَرًا سَاطِعًا سَاكِنَةٌ سَاجِيَةٌ لَا بَرْدَ فِيهَا، ولَا حَرَّ وَلَا يَحِلُّ لِكَوْكَبٍ أَنْ يُرْمَى بِهِ فِيهَا حَتَّى تُصْبِحَ، وَإِنَّ أَمَارَتَهَا أَنَّ الشَّمْسَ صَبِيحَتَهَا تَخْرُجُ مُسْتَوِيَةً لَيْسَ لَهَا شُعَاعٌ مِثْلَ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، لَا يَحِلُّ لِلشَّيْطَانِ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا يَوْمَئِذٍ). 

سائلين الله تعالى أن يبلغنا ليلة القدر، وأن يوفقنا فيها للطاعات، وأن يتقبل الله تعالى منا الصيام والقيام وصالح الأعمال. والحمد لله ربّ العالمين