حرية التعبير وضوابطها

الكاتب : المفتي محمد الحنيطي

أضيف بتاريخ : 03-02-2021


حرية التعبير وضوابطها في الشريعة الإسلامية

أتاح الإسلام للفرد الحرية التامة في العبير عمّا يجول في خاطره، ويدور في فكره، ولقد حفلت النصوص الشرعية قرآناً وسنةً بالإجابة عن كثيرٍ من تلك التساؤلات والخواطر؛ كي لا تتيه العقول وتضل الأفكار والفهوم، بمعنى أن تلك النصوص المقدسة حاصرت كل فكرة وخاطرة قد تجول في ذهن الإنسان حول خالق السماوات والأرض، وحول الحياة الدنيا، وما واكب نشأتها، ونشأت الإنسان الذي كُلف بعمارتها.

ثم إن الشريعة الإسلامية حددت علاقة الإنسان بخالقه، وعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان، وعلاقته بمكونات بيئته.

 وعليه تكون الشريعة الإسلامية قد رسمت خارطة طريق للإنسان حول مدى حريته في التعبير عن رأيه. فالحرية في التعبير عن الرأي في الإسلام مصونة، ولكنها محكومة بضوابط وموازين تعصمها من اختراق حرمات الآخرين وحقوقهم.

 ولقد مثّل قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا)(1) وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)(2) ضابطاً قوياً وواضحاً، في أن المسلم مأمور أن لا يقول إلا الحق، ولا يخبر إلا بالصدق، بعيدا كل البعد عن الكذب الذي يعصف ببنيان أي مجتمع ينتشر فيه، وما الإشاعة وخطرها وعواقبها ببعيدة عن أذهاننا.

وكذا ما يتعلق بالغيبة والنميمة والاستهزاء والسخرية من الآخرين، ولقد قال الله تعالى محذراً من ذلك: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(3)، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ)(4).

وعليه فلا يجوز لمسلم وبدعوى حرية التعبير أن يسخر أو يستهزئ أو يغتاب أحداً.

ولقد قال صلى الله عليه وسلم: (أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخِيَارِكُمْ؟) قَالُوا: بَلَى، قَالَ: (الَّذِينَ إِذَا رُؤُوا ذُكِرَ اللَّهُ، أَفَلَا أُخْبِرُكُمْ بِشِرَارِكُمْ؟) قَالُوا: بَلَى، قَالَ: (الْمَشَّاؤُونَ بِالنَّمِيمَةِ، الْمُفْسِدُونَ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ، الْبَاغُونَ الْبُرَآءَ الْعَنَتَ)(5).

وليس من حرية التعبير السخرية من عبادة ومعتقدات الآخرين، وعليه فلم يؤثر أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم قد سخروا من عبادة غيرهم، وإنما كان الأمر أنهم كانوا يبينوا لهم أن ما هم عليه من عبادة هو باطل، وأن الحق في اتباع ما أمر الله تعالى به، وهذا من باب النصيحة والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، ومن باب محبة الخير للآخرين حتى يكونوا من الناجين يوم القيامة.

ولذلك فقد جعل الإسلام من الكلمة الطيبة صدقة، فقال صلى الله عليه وسلم: (وَالكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ)(6)، ومعلوم أن الكلمة لا تكون صدقة إن كان بها انتقاص أو سخرية أو استهزاء أو استصغار لغيره، وبالتالي فحرية التعبير لا تكون إلا بما يؤدي إلى حفظ كرامة وحقوق الآخرين، ولا يصادم ما أمر به الله تعالى من أوامر ونواه .

يقول صلى الله عليه وسلم: (.... وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ)(7).

ولا تكون حرية التعبير كذلك بالسب واللعن والكلام الفاحش البذيء، يقول صلى الله عليه وسلم: (لَيْسَ المُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ وَلَا اللَّعَّانِ وَلَا الفَاحِشِ وَلَا البَذِيء)(8)، إذن فالمسلم له مساحة من التعبير عن رأيه وفكره، نقداً واصلاحاً ونصيحةً، ولقد ضرب لنا الصدّيق رضي الله عنه أروع الأمثلة في حفظ حرية التعبير الملتزمة، ففي أول خطبة ألقاها بعد توليه الخلافة، بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (أطيعوني ما أطعت الله فيكم)(9).

ولكن هذه الحرية الممنوحة للمسلم محكومة بما لا يمسّ حرية وحق غيره، يقول عليه الصلاة والسلام في خطبة حجة الوداع: (فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ، وَأَعْرَاضَكُمْ، بَيْنَكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا)(10)، ويقول كذلك : (لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله، ولا يحقره التقوى هاهنا -ويشير إلى صدره ثلاث مرات- بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله، وعرضه)(11).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) سورة الأحزاب، الآية رقم (70).

(2) سورة التوبة، الآية رقم (119).

(3) سورة الأحزاب، الآية رقم (11).

(4) سورة الأحزاب، الآية رقم (12).

(5) مسند الإمام أحمد، حديث رقم (27599).

(6) صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسّير، باب من أخذ بالركاب ونحوه.

(7) المصدر السابق، كتاب الأدب، باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره.

(8) سنن الترمذي، كتاب أبواب البر والصلة، باب ما جاء في اللعنة.

(9) سيرة ابن هشام 2/661.

(10) صحيح البخاري، كتاب العلم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ربّ مُبلغ أوعى من سامع".

(11) صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم وخذله.