العلاقة التاريخية بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى
الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين ومن استن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. وبعد:
في مثل هذه الأيام من كل عام نستذكر معجزة الإسراء والمعراج، تلك الحادثة التي تربط المسجد الحرام بالمسجد الأقصى وذلك لما بينهما من علاقة دينية وشيجة، فهو أول القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين، وهو مما تشد إليه الرحال، هذه أمور معلومة للجميع معروفة لديهم، ما أحب أن أقف معه في هذه المقالة رابط آخر؛ ألا وهو الارتباط التاريخي؛ وتكمن هذه الرابطة في أن بناء المسجدين كان في حقبة زمنية واحدة وفترة متقاربة، ويشهد لهذا ما جاء في الحديث الصحيح عن أبي ذر رضي الله عنه، قال: قلت يا رسول الله، أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: (المسجد الحرام) قال: قلت: ثم أي؟ قال (المسجد الأقصى) قلت: كم كان بينهما؟ قال: (أربعون سنة، ثم أينما أدركتك الصلاة بعد فصله، فإن الفضل فيه) أخرجه البخاري([1]) ومسلم([2])، فالحقبة الزمنية واحدة بنص الحديث الذي بيّن فضل المسجد الأقصى ومكانته في الإسلام، والعلاقة قديمة بقدم البناء تمتد في غابر الأزمان قائمة منذ القدم ليست بحادث.
فهذه الحقيقة الثابتة بالنص الصحيح تبعث في النفس تساؤلات عدة؛ من الذي بنى المسجد الأقصى؟ ومتى تم البناء؟ وما علاقة بناء الكعبة المشرفة ببناء المسجد الأقصى؟ وهل صحيح ما يقال إنّ سليمان عليه السلام هو من بنى المسجد الأقصى؟ وكم الفترة الزمنية بين سليمان عليه السلام وبين إبراهيم عليه السلام إذا قلنا بأن إبراهيم عليه السلام هو من بنى الكعبة المشرفة؟
قبل أن نجيب عن هذه الاسئلة لا بد أن نعرف من الذي بنى المسجد الحرام وكيف تم البناء؟ وذلك لقرب الفترة الزمنية بين المسجدين فهي أربعون سنة، وبناءً على هذا الحديث لا بد من ترابط وتلازم بين البناءين فهما في حقبة زمانية واحدة، فمن بنى المسجد الحرام هو من بنى المسجد الأقصى أو أمر ببنائه، والسبب في ذلك أنهم كانوا يُعمرون طويلاً، والفترة بين البناءين قصيرة، فالحقبة واحدة، والباعث على البناء واحد فهما معدان للعبادة والسجود.
وقد اختلف العلماء في من بنى الكعبة المشرفة على أقوال عدة، وذلك لعدم وجود الدليل القاطع في القرآن الكريم أو السنة المطهرة على ذلك، ومن هنا تباينت الأقوال واختلفت الآراء فيمن بنى البيت الحرام أول مرة.
فذهب الفريق الأول إلى أنّ الكعبة أهبطت من السماء عند نزول آدم، ثمّ رفعها الله تعالى عند الطوفان، ذُكر أنّ عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، سأل كعباً، فقال: أخبرني عن هذا البيت، ما كان أمره؟، فقال: "إنّ هذا البيت أنزله الله من السماء ياقوتة مجوفة مع آدم عليه السلام، فقال: يا آدم إنّ هذا بيتي فطف حوله وصلِّ حوله كما رأيت ملائكتي تطوف حول عرشي وتصلي، ونزلت معه الملائكة فرفعوا قواعده من حجارة ثم وضع البيت على القواعد، فلما أغرق الله قوم نوح رفعه الله وبقيت قواعده"([3]).
وفي رواية عبد الله بن عمرو قال: لما أهبط الله آدم من الجنة قال: إني مُهبط معك -أو مُنزل- معك بيتاً يُطاف حوله كما يُطاف حول عرشي، ويُصلى عنده كما يُصلى عند عرشي. فلما كان زمن الطوفان رُفع، فكانت الأنبياء يحُجونه ولا يعلمون مكانه، حتى بوأه الله إبراهيم، وأعلمه مكانه، فبناه من خمسة أجبل"([4]).
جاءت الروايتان بأخبار موقوفة غير مسندة للنبي صلى الله عليه وسلم، فالرواية الأولى جاءت من طريق أهل الكتاب لا دليل عليها في السنة النبوية، ففي رواية كعب أنها نزلت ياقوتة مجوفة رفعت عند الطوفان، في حين جاءت رواية ابن عمر موقوفة عليه وكانت الدلالة اللفظية أنّ البيت أنزل مع آدم ورفع عند الطوفان، ولم يرد ذكره بالأوصاف التي ورد بها في رواية كعب ياقوتة مجوفة، وعليه؛ فلا نستطيع أن نجزم بهذا القول.
القول الثاني: حيث ذهب أصحاب هذا القول إلى أنّ من بنى الكعبة المشرفة هم الملائكة، واستدلوا على ذلك ببعض الأثر، فقد ذكر الأزرقي في أخبار مكة عن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب رضي الله عنهم حينما جاء رجل من أهل الشام يسأله عن بناء البيت الحرام وكيف وضع فقال: "إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَعَثَ الْمَلَائِكَةَ فَقَالَ لَهُمْ: ابْنُوا لِي بَيْتًا فِي الْأَرْضِ بِمِثَالِهِ وَقَدْرِهِ، فَأَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَنْ فِي الْأَرْضِ مِنْ خَلْقِهِ أَنْ يَطُوفُوا بِهَذَا الْبَيْتِ، كَمَا يَطُوفُ أَهْلُ السَّمَاءِ بِالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ"، فَقَالَ الرَّجُلُ: صَدَقْتَ يَا ابْنَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَكَذَا كَانَ"([5]). يعني بِمِثَالِهِ وَقَدْرِهِ: البيت المعمور الذي في السماء. فهذه الرواية تشير بشكل واضح إلى أنّ الملائكة عليهم السلام هم الذين قاموا ببناء الكعبة المشرفة، ولكن هذا الخبر جاء من طريق مرسلة وليس متصلا بالسند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يعول عليه في الحكم.
كما استدلوا برواية أنس بن مالك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كان موضع البيت في زمن آدم شبراً، أو أكثر علماً، فكانت الملائكة تحجه قبل آدم، ثم حج آدم فاستقبلته الملائكة فقالوا: يا آدم من أين جئت؟ قال: حججت البيت، فقالوا: قد حجته الملائكة قبلك)([6])، وقد ذكر ابن الأزرقي في أخبار مكة رواية لابن عباس وأبي هريرة يذكر فيها أنّ آدم حج إلى البيت الحرام([7])، فهذه الرواية وغيرها تبين أن آدم عليه السلام حج البيت، ولكن لم تبين من بنى البيت هل هم الملائكة أم أنّه أنزل من السماء أم أنّ آدم هو من بنى البيت ثم حج بعد ذلك.
كما احتجوا برواية سليمان بن بريدة، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (طاف آدم بالبيت سبعاً حين نزل ثم صلى وجاه باب الكعبة ركعتين، ثم أتى الملتزم، فقال: اللهم إنك تعلم سريرتي وعلانيتي، فاقبل معذرتي)([8]) وفي هذا دلالة على أنّ البيت الحرام كان موجوداً قبل خلق آدم عليه السلام، ولكن الرواية لم تبين من بنى البيت أيضاً وكيف تم بناؤه. وعليه: فلا نستطيع الجزم بهذا القول؛ لأنّ الخبر الذي صرح بالبناء جاء مقطوعاً ولم يأتِ متصل السند.
القول الثالث: إنّ آدم عليه السلام هو من بنى البيت، واستدلوا على ذلك برواية عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْروِ بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عليه وآله وَسَلَّمَ: (بَعَثَ اللهُ جِبْرِيلَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِلَى آدَمَ وَحَوَّاءَ، فَقَالَ لَهُمَا: ابْنِيَا لِي بِنَاءً. فَخَطَّ لَهُمَا جِبْرِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَجَعَلَ آدَمُ يَحْفِرُ وَحَوَّاءُ تَنْقِلُ حَتَّى أَجَابَهُ الْمَاءُ، نُودِيَ مِنْ تَحْتِهِ: حَسْبُكَ يَا آدَمُ. فَلَمَّا بَنَيَاهُ أَوْحَى اللهُ، تَعَالَى، إِلَيْهِ: أَنْ يَطُوفَ بِهِ، وَقِيلَ لَهُ: أَنْتَ أَوَّلُ النَّاسِ، وَهَذَا أَوَّلُ بَيْتٍ. ثُمَّ تَنَاسَخَتِ الْقُرُونُ حَتَّى حَجَّهُ نُوحٌ، ثُمَّ تَنَاسَخَتِ الْقُرُونُ حَتَّى رَفَعَ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْه)([9]).
قال ابن كثير: "ضعيف، ووقفه على عبد الله بن عمرو أقوى وأثبت"([10]).
كما استدلوا برواية ثانية عن عطاء قال: "أهبط آدم بالهند، فقال: يا رب مالي لا أسمع صوت الملائكة كما كنت أسمعها في الجنة؟، فقال له: بخطيئتك يا آدم، فانطلق فابن له بيتا فتطوف به كما رأيتهم يتطوفون، فانطلق حتى أتى مكة، فبنى البيت، فكان موضع قدمي آدم قرى وأنهارا وعمارة، وما بين خطاه مفاوز، فحج آدم عليه السلام البيت من الهند أربعين سنة"([11]).
وهذا القول جاء بروايتين ضعيفتين: الأولى مرفوعة إلى النبي وقد أشار علماء الحديث إلى ضعفها، والثانية مرسلة، ومعلوم أنّ الحديث المرسل ضعيف، ولذلك لا يمكن أن نجزم بهما في أنّ آدم عليه السلام هو من بنى الكعبة المشرفة.
القول الرابع: إنّ إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام هما من بنيا الكعبة المشرفة. واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (127-البقرة)، والرد على ذلك: إنّ إبراهيم عليه السلام رفع القواعد التي كانت موجودة في الماضي ثمّ درست لتعاقب السنين، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "رَفَعَ الْقَوَاعِدَ الَّتِي كَانَتْ قَوَاعِدَ الْبَيْتِ قَبْلَ ذلك"([12]) فهو لم يضع القواعد الأولى للبناء، ولكن رفع القواعد السابقة والله تعالى أعلم.
وعليه: فلا نستطيع الجزم بالقول الراجح في هذه المسألة لأنّه مما يعسر القول به والاستدلال عليه كما صرح الطبري رحمه الله بقوله: "والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إنّ الله تعالى ذكره أخبر عن إبراهيم خليله أنّه وابنه إسماعيل، رفعا القواعد من البيت الحرام. وجائز أن يكون ذلك قواعد بيت كان أهبطه مع آدم، فجعله مكان البيت الحرام الذي بمكة... وجائز أن يكون كان آدم بناه ثم انهدم، حتى رفع قواعده إبراهيم وإسماعيل. ولا علم عندنا بأي ذلك كان من أي، لأن حقيقة ذلك لا تدرك إلا بخبر عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، بالنقل المستفيض. ولا خبر بذلك تقوم به الحجة فيجب التسليم لها... ولا هو مما يدل عليه بالاستدلال والمقاييس، فيمثل بغيره، ويستنبط علمه من جهة الاجتهاد، فلا قول في ذلك هو أولى بالصواب مما قلنا"([13]).
فالقول فيمن بنى المسجد الحرام منحصرة في هذه الأقوال لا غير مع عدم وجود مرجح بينها، ولا بد أن يكون من بنى المسجد الحرام هو من بنى المسجد الأقصى؛ لأنّ الفترة الزمنية بين البناءين قليلة، فهي خمسين سنة، فإذا كان الملائكة هم من بنوا المسجد الحرام فلا بد أن يكونوا هم من بنوا المسجد الأقصى، وهو الحال نفسه مع سيدنا آدم وإبراهيم عليهما السلام.
ومن هنا تباينت أقوال العلماء فيمن بنى المسجد الأقصى كما يقول ابن حجر: "وقد رأيت لغيره أنّ أول من أسس المسجد الأقصى آدم عليه السلام، وقيل الملائكة، وقيل سام بن نوح عليه السلام، وقيل يعقوب عليه السلام، فعلى الأولين يكون ما وقع ممن بعدهما تجديدا كما وقع في الكعبة"([14])، فجعل ابن حجر البناء إمّا للملائكة أو لآدم عليه السلام وما حدث بعد ذلك فهو من التجديد للبناء وليس هو من وضع البناء، كما هو الحال مع المسجد الحرام، فابن حجر وغيره من المحققين يرون أنّ من بنى المسجد الحرام هو من بني المسجد الأقصى، وهذا دليل على قدم بناء المسجد الأقصى، وذلك لقصر الفترة الزمنية بين البناءين.
وعليه ينحصر القول فيمن بنى المسجد الأقصى في خمسة أقوال:
القول الأول: إنّ الملائكة عليهم السلام هم من بنوا المسجد الأقصى قبل هبوط آدم من الجنة، وقد أشار إلى هذا القول ابن حجر رحمه الله تعالى([15]).
القول الثاني: إنّ آدم عليه السلام هو من بنى كلا المسجدين المسجد الحرام والمسجد الأقصى، يقول ابن حجر: "وقد وجدت ما يشهد له ويؤيد قول من قال إنّ آدم هو الذي أسس كلاً من المسجدين، فذكر بن هشام في كتاب التيجان أنّ آدم لما بنى الكعبة أمره الله بالسير إلى بيت المقدس وأن يبنيه، فبناه ونسك فيه، وبناء آدم للبيت مشهور"([16]).
والقول الثالث: أنّ أبناء آدم عليه السلام هم من بنوا المسجد الأقصى: "وجوابه أنّ الإشارة إلى أول البناء ووضع أساس المسجد، وليس إبراهيم أول من بنى الكعبة ولا سليمان أول من بنى بيت المقدس، فقد روينا أنّ أول من بنى الكعبة آدم ثم انتشر ولده في الأرض، فجائز أن يكون بعضهم قد وضع بيت المقدس ثم بنى إبراهيم الكعبة بنص القرآن"([17]).
القول الرابع: أن إبراهيم وإسحاق هما من بنيا المسجد الأقصى، وهذا القول يرتفع إذا علمنا أنّ إبراهيم عليه السلام لم يبنِ ولم يؤسس القواعد للبيت الحرام، وإنّما رفع القواعد التي كان قد أسس لها في البناء الأول والعهد الأول، يقول الطبري -وهو ينقل أقوال السلف الصالح في بناء الكعبة-: "وهي قواعد بيت كان بناه آدم أبو البشر بأمر الله إياه بذلك، ثم درس مكانه وتعفى أثره بعده، حتى بوأه الله إبراهيم عليه والسلام، فبناه"([18])، ولو سلمنا أنّ إبراهيم وإسماعيل من بنيا البيت الحرام، وأنّ إبراهيم وإسحاق من بنيا المسجد الأقصى، فإنّ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو أولى الناس بإبراهيم، قال تعالى: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران 67-68)، فمن كان أولى الناس بالشريعة والمنهاج كان أولى الناس بباقي الأمور، فلما كان صلى الله عليه وسلم أولى الناس بالمسجد الحرام كان كذلك في المسجد الأقصى.
القول الخامس: إنّ سليمان عليه السلام من بنى المسجد الأقصى، واستدلوا على ذلك بحديث عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنّ سليمان بن داود صلى الله عليه وسلم لما بنى بيت المقدس سأل الله عز وجل خلالاً ثلاثة: سأل الله عز وجل حكماً يصادف حكمه فأوتيه، وسأل الله عز وجل ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده فأوتيه، وسأل الله عز وجل حين فرغ من بناء المسجد أن لا يأتيه أحد لا ينهزه إلا الصلاة فيه أن يخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمه)([19]).
وهذا القول مرجوح ومنقوض من أوجه عدة:
أولاً: الفترة الزمنية بين إبراهيم وسليمان عليهما السلام طويلة جداً -وهي أقل الفترات الزمنية بين الأقوال السابقة في بناء الكعبة المشرفة وأقربها من سليمان عليه السلام تاريخياً- على من يرى أنّ إبراهيم هو من بنى البيت الحرام، فبين إبراهيم وسليمان أكثر من ألف سنة فكيف يصح القول بمثل هذا وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم أنها أربعون سنة، يقول ابن حجر في بيان الإشكال بين الروايات: "ولو كان كما قال لكان بينهما أربعون سنة، وهذا عين المحال لطول الزمان بالاتفاق بين بناء إبراهيم عليه السلام البيت وبين موسى عليه السلام ثم إنّ في نص القرآن أنّ قصة داود في قتل جالوت كانت بعد موسى بمدة"([20]) فإذا كانت الفترة الزمنية بين إبراهيم وبين سليمان عليهما السلام أكثر من ألف سنة فكم تكون الفترة الزمنية بينه بين آدم عليه السلام أو بينه وبين أبناء آدم عليه السلام؟ وكيف يصح القول أنّ سليمان عليه السلام هو من بنى المسجد الأقصى وبينه وبين إبراهيم عليه السلام على أقرب قول أكثر من ألف سنة؟ والنص الصحيح صريح يتعارض مع ذلك عقلاً ونقلاً.
ثانياً: إنّ هذا القول يتناقض مع الخبر الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي ذر رضي الله عنه، قال: قلت يا رسول الله، أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: (المسجد الحرام) قال: قلت: ثم أي؟ قال (المسجد الأقصى) قلت: كم كان بينهما؟ قال: (أربعون سنة)([21]).
ثالثاً: إنّ القول لا يُحمل على أصل البناء وإنّما تجديد البناء، "ويرتفع الإشكال بأن يقال الآية والحديث لا يدلان على بناء إبراهيم وسليمان لما بينا ابتداء وضعهما لهما، بل ذاك تجديد لما كان أسسه غيرهما وبدأه"([22])، فإبراهيم وسليمان عليهما السلام مجددان للبناء لا مؤسسان له، وعلى هذا القول فلا وجود للهيكل المزعوم الذي يقول به الكيان الغاصب؛ لأنّ سليمان عليه السلام لم يضع الأساس للبناء قولاً واحداً، بل كان مجدداً إنّ صح الخبر، وما يقوم به الكيان الغاصب من البحث والتنقيب تحت المسجد الأقصى بحثاً عن الهيكل المزعوم لن يخرج بنتيجة مطلقاً؛ لأن الواقع والتاريخ يكذبه، فلم يعثروا على دليل واحد يثبت وجود الهيكل كما يدعون.
وسبب الخلاف فيمن بنى المسجدين يرجع إلى قرب الفترة الزمنية بين البناءين، وعدم وجود الدليل القاطع من الكتاب أو السنة التي تُبيّن من بنى المسجد الحرام أو من بنى المسجد الأقصى، والامتداد الزمني الطويل إذا قلنا أنّ آدم هو من بنى المسجد الحرام أو أنّ الملائكة عليهم السلام هم من بنوه، كل هذا مما يعسر على الباحث الجزم به. ولكن مما نجزم به أنّ سليمان عليه السلام لم يكن هو من بنى المسجد الأقصى لأول مرة قولاً واحداً؛ لأنّ الفترة الزمنية بين سليمان وإبراهيم عليهما السلام أكثر من ألف سنة –إذا قلنا إنّ إبراهيم عليه السلاك هو من بنى الكعبة المشرفة- والمسجدين بنيا في فترة زمنية واحدة بنص الحديث الصحيح.
ونخلص في نهاية هذه المقالة إلى حقائق عدة وهي:
1. أنّ العلاقة بين المسجدين علاقة تاريخية تمتد جذورها عبر التاريخ من عهد آدم عليه السلام مروراً بباقي الأنبياء عليهم السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وستبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فرحلة الإسراء والمعراج محطة تربط الماضي بالحاضر وبالمستقبل، وتبرز مكانة المسجد الأقصى في الأمة، فهو حلقة الوصل بين الأرض والسماء، فليس الإسلام من أوجد هذه العلاقة التاريخية بين المسجدين، ولكن الاسلام أكدها وبينها وأقرها.
2. إنّ من بنى المسجد الحرام هو من بنى المسجد الأقصى، فإذا قلنا إنّ الملائكة هم من بنوا المسجد الحرام فهم من بنوا المسجد الأقصى قبل نزول آدم، لقرب العهد بين البناءين كما ثبت بالحديث الصحيح، فلا يعقل أن يكون الملائكة هم من بنوا المسجد الحرام ويكون سيدنا سليمان عليه السلام هو من بنى المسجد الأقصى، لأن بينهما زمنا طويلا جداً، وهو الحال نفسه مع سيدنا آدم وسيدنا إبراهيم عليهما السلام.
3. إنّ المسجد الأقصى أخذ اسم المسجد ولم يأخذ اسم معبد أو كنيس أو صومعة، وهذا دليل على ارتباطه التاريخي بالمسجد الحرام، ولو كان سليمان عليه السلام هو من بناه لما سماه مسجداً بل سماه معبداً أو كنيساً أو صومعة، والواقع والتاريخ يثبت أنّ اليهود لا تسمى معابدها مساجد، كما يطلق عليها في الإسلام.
4. إنّ الإسراء والمعراج تعيد المسجد إلى حظيرة الإسلام والتي كان عليها من عهد آدم مروراً بنوح وهود وصالح وإبراهيم عليهم السلام وانتهاءً بهذه الأمة، ولو كان بناءه متأخراً إلى عهد سليمان عليه السلام لما أخذ كل هذه المنزلة في الفضل والقدسية والمكانة بل كان كغيره من المعابد والمساجد، فقد أخذ هذه المكانة والقدسية بجذوره الممتدة في غابر الزمنة فهو ثاني المساجد بناء.
5. إنّ صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم بالأنبياء إماماً لهي دليل واضح على أنّ سيادة المسجد الأقصى انتقلت له صلى الله عليه وسلم ولأمته من بعده، فهو صاحب السيادة والسلطان، فعن أبي مسعود الأنصاري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه، ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه)([23])، قال الإمام النووي تعقيباً على الحديث: "إنّ صاحب البيت والمجلس وإمام المسجد أحق من غيره وإن كان ذلك الغير أفقه وأقرأ وأورع وأفضل منه، وصاحب المكان أحق، فإن شاء تقدم، وإن شاء قدم من يريده، وإن كان ذلك الذي يقدمه مفضولا بالنسبة إلى باقي الحاضرين؛ لأنه سلطانه فيتصرف فيه كيف شاء"([24])، فإمامته بالأنبياء دليل أنه في ملكه وسلطانه وأنه صاحب الوصاية عليه، وهو دليل أيضاً على مكانة النبي صلى الله عليه وسلم وفضله، وأن الأنبياء عليهم السلام مقرون له بالفضل كله، فهو خاتم النبيين والمرسلين وشريعته خاتمة الشرائع السماوية.
6. إنّ بداية رحلة الإسراء والمعراج من المسجد الحرام مروراً بالمسجد الأقصى، ثمّ إلى السماوات العلا دليل واضح على مكانة المسجدين بشكل خاص لاختيارهما لهذا الحدث المهيب، وهو دليل أيضاً على مكانة المسجد -بوجه عام- في الإسلام، فهذه المعجزة تدلي برسالة للأمة جمعاء مفادها أنّ الأمور العظام يجب أن تبدأ من المسجد وتنتهي به، فمن خلال المسجد كانت تُدار جميع أمور الدولة الإسلامية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح.
وختاماً لا بد أن نعلم علم اليقين أن هذا المسجد محفوظ بحفظ الله تعالى، مرعي برعايته وكنفه، وخير دليل على ذلك بقاؤه كل هذه القرون شامخاً رغم تعدد الحضارات، وتعاقب الأجيال، وامتداد السنين، فلا يزال يصدح بذكر الله تعالى، وسيبقى كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
([1]) البخاري؛ محمد بن إسماعيل أبو عبدالله ، الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه، ت محمد الناصر، دار طوق النجاة، الأولى، 1422هـ، رقم الحديث: 3366، ج4، ص145.
([2]) مسلم بن الحجاج أبو الحسن القشيري النيسابوري (المتوفى: 261هـ)، المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ت محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث، كتاب المساجد، رقم الحديث: 520، ج1، ص370.
([3])البيهقي: أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخراساني (المتوفى: 458هـ)، السنن الكبرى، ت محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنات، الثالثة، 2003 م، ج5، ص451.
([4])الطبري ، أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن غالب الآملي (المتوفى: 310هـ)، جامع البيان في تأويل القرآن : أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الأولى، 1420 هـ - 2000 م، ج3، ص58.
([5]) الأزرقي؛ أبو الوليد محمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن الوليد بن عقبة بن الأزرق (المتوفى: 250هـ)، أخبار مكة وما جاء فيها من الأثار، ت رشدي الصالح ملحس، دار الأندلس للنشر – بيروت.
([6]) البيهقي، السنن الكبرى، ج5، ص288.
([7])الأزرقي، أخبار مكة، ج1، ص45.
([8])الأزرقي، أخبار مكة، ج1، ص349.
([9]) البيهقي؛ أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي بن موسى (المتوفى: 458هـ)، دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، دار الكتب العلمية – بيروت، الأولى - 1405 هـ، ج2، ص45.
([10]) ابن كثير أبو الفداء إسماعيل بن عمر القرشي الدمشقي (المتوفى: 774هـ)، البداية والنهاية، علي شيري، دار إحياء التراث العربي، الأولى 1408، هـ - 1988 م،ج2, ص365.
([11]) البيهقي، شعب الإيمان، رقم الحديث: 3701، ج5، ص450.
([12]) ابن أبي حاتم، أبو محمد عبد الرحمن بن محمد بن إدريس (المتوفى: 327هـ)، تفسير القرآن العظيم، ت أسعد محمد الطيب، مكتبة نزار الباز، المملكة العربية السعودية، الثالثة - 1419 هـ،ج1، ص231.
([13]) الطبري، جامع البيان، ج3، ص64.
([14])أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني الشافعي، فتح الباري شرح صحيح البخاري، ت محب الدين الخطيب، دار المعرفة - بيروت، 1379ه، ج6، ص409.
([15])ابن حجر، فتح الباري، ج6، ص409.
([16]) ابن حجر، فتح الباري، ج6، ص409.
([17])ابن حجر، فتح الباري، ج6، ص408.
([18]) الطبري، جامع البيان، ج3، ص57.
([19]) النسائي أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي الخراساني، (المتوفى: 303هـ)، المجتبى من السنن ، عبد الفتاح أبو غدة، مكتب المطبوعات الإسلامية – حلب، الثانية، 1406 – 1986، باب فضل المسجد الأقصى، رقم الحديث: 693، ج2، ص34.
([20]) ابن حجر، فتح الباري، ج6، ص409.
([21]) سبق تخريجه وهو متفق عليه.
([22]) عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911هـ)، حاشية السندي على سنن النسائي، مكتب المطبوعات الإسلامية – حلب، الثانية، 1406 – 1986م، ج3، ص33.
([23]) صحيح مسلم، باب الأحق بالإمامة، ج1، ص465.
([24]) النووي، شرح صحيح مسلم، ج5، ص173.